انشغلت آية ناصر منذ طفولتها بحفظ القرآن الكريم، وكانت من رواد المسجد القريب لمنزلهم، وبتشجيع من والدَيها حفظته بعمر الـ16 عامًا في إحدى الإجازات الصيفية، بعد أن دخلت مشروعًا يطلب منها حفظ عشر صفحات في اليوم.
شعرت آية (21 عامًا) بإنجاز عظيم، ودبّت فيها روح التحدي والعزيمة لهدف أسمى وهو سرد القرآن الكريم على جلسة واحدة، لكن انتهاء الإجازة وبدء مرحلة الثانوية العامة حال دون هدفها، فبعد أن كانت تقضي جلّ وقتها في حفظ القرآن أصبحت تنشغل بالدراسة لتحصد معدلًا يرفع رأس والديها.
تقول بأسفٍ لـ "فلسطين": "بعد الثانوية العامة سجلت في الجامعة، فخمدت عزيمتي، وأصبحت أشعر أن الوقت ليس كافيًا لأحفظ وأدرس وأجابه ضغط تكاليف الجامعة في آن واحد، فأجّلت التثبيت وإلى الآن لا أستطيع العودة للمراجعة".
اقرأ أيضا: الأغا: إتقان حفظ القرآن وتسميعه على جلسة واحدة دليل على عمق العلاقة بالقرآن
اقرأ أيضا: "التوجيه السياسي" يُكرّم 17 نزيلًا من حفظة "القرآن" وأجزاء منه
آية لم تكن سوى أنموذج لأغلب الحفاظ، ففي السنوات الأخيرة، رصدت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية أرقامًا كبيرة لحفاظ وحافظات ختموا القرآن الكريم، في المقابل أعداد المثبّتين والساردين أقل بكثير من المجموع الكلي للحافظين.
استكمال التثبيت
يقول مدير الإدارة العامة للقرآن الكريم في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية د. محمد سالم: إن كثيرًا من الحافظين للقرآن الكريم يميل إلى التثبيت بشكل شخصي، دون استعانة بمركز قرآن أو التزام ببرنامج اعتبارًا أن التثبيت سيأخذ جهدًا كبيرًا إلى جانب اهتمامات جامعية أو مدرسية.
ويذكر في حديث خاص لـ"فلسطين" أن عدد الحفّاظ لعام 2022، وصل إلى 705 حافظين وحافظات، في حين بلغ عدد الحفاظ الساردين على جلسة واحدة، ما يقارب 489 ساردًا وساردة.
وتابع سالم: "لاحظنا مشكلة عند كثير من الحفاظ تتمثل بعدم استكمال مشروع التثبيت والانقطاع عن القرآن الكريم، فكان ضمن خطة عام 2023 تعزيز التثبيت ضمن مرحلة الحفظ فأصبحنا نجري مسابقات لطلبة التحفيظ في تسميع وسرد أجزاء مجتمعة".
ويلفت إلى أن الوزارة عقدت مسابقة لسرد ثلاثة أجزاء على جلسة واحدة، ثم مسابقة لسرد خمسة أجزاء غير الأجزاء الثلاثة الأولى فشارك فيها 425 من طلبة مراكز التحفيظ بمحافظات غزة الخمس، وأصبح الطالب مثبتًا لثمانية أجزاء وهو ما يزال في مرحلة الحفظ.
ويبيّن سالم أن وزارة الأوقاف تتبنى ثلاثة مسارات محددة ليصل الطالب إلى درجة الإتقان في التثبيت، تبدأ بحفظ القرآن الكريم كاملًا، ثم ينتقل الحافظ إلى ديوان التثبيت الذي بدوره ينقله إلى مرحلة القراءات وعلوم القرآن.
ويؤكد أن بعد عملية حفظ القرآن يكون الطالب غالبًا على أعتاب الجامعة، فتحمل معها انشغالات جديدة متعلقة بمستقبله تدفعه إلى التثبيت بجهد شخصي دون اللجوء إلى برنامج تابع لمؤسسة الحفظ.
علوم متقدمة
ويوضح أن مرحلة التثبيت تندرج ضمن "دائرة ديوان المحفظين"، تهدف إلى ضبط حفظ آيات القرآن وأرقام الصفحات إضافة إلى تثبيت أوائل السور ونهاياتها، ثم يشرع الطالب بالبدء في علم المتشابهات، "وهذه علوم متقدمة لا يقوى عليها إلا صاحب الهمة العالية".
ويوجه سالم رسالته إلى الحافظين الذين لم يبدأوا بمرحلة التثبيت قائلًا: "إن الله عزّوجل أكرمكم بحفظ القرآن واصطفاكم من بين خلقه، فلا بد من بذل الجهد لتثبيته وهذه وصية رسولنا صلى الله عليه وسلم حيث قال: "تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده إنه لأشد تفلتًا من الإبل في عقلها".
وختم بتحذير النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابَه من أفعالِ طائفةٍ تأتي مِنْ بعدهم يقرؤون القرآن، غير أنَّ القراءة لا تتعدّى حناجرهم، وتبقى في حيِّز الأصوات بلا عمل، "يَخْرُجُ في هذه الأُمَّةِ -ولم يقل منها- قومٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمُ مَعَ صَلاتِهمُ، يَقْرَؤُونَ القُرآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أو حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرِقُونَ مِنَ الدِّين مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ".
"أمرٌ ثانوي"
في حين، تشدد رئيسة شعبة ديوان المحفظات بغزة عهود فروانة، على أن التثبيت بعد الحفظ مرحلة لا يصل إليها كل حافظ، فكثير ممن حفظوا القرآن اكتفوا وأشعروا أنفسهم بأنهم أدوا واجبهم مع الله إضافة إلى الانشغالات الدراسية التي دفعت الكثير إلى جعل القرآن أمرًا ثانويًا في حياته مقدمًا جلّ وقته للدراسة والعمل.
وتضيف: "نبينا أخبرنا أن القرآن يتفلت من صدور حملته، مشبهًا سرعة تفلته بتفلت الإبل من عُقُلها، وهذا الخبر هو في الواقع يجب أن يحفز حملة كتاب الله تعالى على المزيد من العناية به".
وتشير فروانة إلى أن محفّظة القرآن لها تأثير كبير على جلب الحفاظ وتهيئة بيئة مناسبة للحفظ والتثبيت والإقبال على كتاب ربهم، واكتشاف طاقات الحفاظ الكامنة، وإيقاظ هممهم التي تفتر في فترات معينة.
كما تهيب بأهالي الحفاظ دفع أبنائهم إلى تثبيت القرآن الكريم وإتقانه، فشرف الوالدين من تحفيظ أبنائه القرآن عظيم إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن، وتعلمه، وعمل به، ألبس يوم القيامة تاجًا من نور، ضوؤه مثل ضوء الشمس، ويُكسى والداه حلتين، لا تقوم بهما الدنيا، فيقولان: بم كُسينا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن".